مقالات

د. عبد الحليم قنديل يكتب: فلسطين التى ننتظرها

بقلم الكاتب الصحفي الدكتور عبد الحليم قنديل

بينما أكتب هذه السطور ، وعلى مرمى أيام من حلول الذكرى الخامسة والسبعين لنكبة احتلال فلسطين ، يعيش كيان الاحتلال الإسرائيلى فى حيرة شاملة ، وأمر قادته بفتح الملاجئ وغلق الطرق الرئيسية فى مستوطنات غلاف “غزة” ، وبإجلاء آلاف “الإسرائيليين” من المدن القريبة حتى “عسقلان” ، بعد أن ارتكب جيش الاحتلال جريمة جديدة ، وعاد لسياسة اغتيالات قادة المقاومة الفلسطينية ، وكانت الضربة موجهة هذه المرة لقادة فصيل “الجهاد الإسلامى” ، وتباهى “بنيامين نتنياهو” رئيس وزراء العدو بنجاح العملية ، وبقتل ثلاثة من قادة “الجهاد” العسكريين فى منازلهم مع زوجاتهم وأطفالهم ، فيما راحت أربعون طائرة مقاتلة إسرائيلية تواصل دك شريط “غزة” ، وتقتل المزارعين والمدنيين الأبرياء ، وبعد فترة صمت مقصود ، جاوزت عشرات الساعات ، ردت فصائل المقاومة بغارات صاروخية مكثفة ، وبرشقات بالمئات ، وصل مدى بعضها إلى “تل أبيب” وقاعدة عسكرية بجوارها ، وبالقرب من مطار “بن جوريون” الذى تقلصت حركته ، ومن دون أن تعلن المقاومة أنها اكتفت ، بل احتفظت بحق المزيد من الرد فى المكان والزمان المناسبين ، وهو ما زاد من قلق العدو ، وأطفأ فرحته المفتعلة ، وتوهمه أنه استطاع استعادة قوة الردع وزمام المبادرة .
وكما تقف قوات الاحتلال على أصابعها متأهبة ، وتنرقب المزيد من الرد الفلسطينى ، فنحن أيضا ننتظر ، ونثق أن المقاومة الجسورة ، لن تخذل أهلها ، وستخيب ظن العدو فى المكان والزمان الذى تختاره ، وعلى جبهات تتعدد ، فى شمال فلسطين المحتلة ، أو فى القدس والضفة الغربية ، أو فى قلب الداخل الفلسطينى المحتل منذ نكبة 1948 ، فلم تعد جبهات المقاومة النشطة مقصورة على “غزة” البطلة وحدها ، وقد خاض العدو ضدها حروبا خمسة مطولة فاشلة ، بل انتقلت عدوى مقاومة “غزة” إلى كل جهات فلسطين ، وصارت “وحدة الساحات” أمرا واقعا مرئيا ، وهذا هو التحول النوعى الأبرز فى تاريخ الكفاح الفلسطينى ، الذى تعمد ببركة صمود القدس والمسجد الأقصى وكنيسة القيامة ، ودشنته بسالة وفدائية أجيال الفلسطينيين الجديدة ، وشقت مجراه معركة “سيف القدس” فى مايو 2021 ، وواصل تطوره إلى ما جرى فى “رمضان” العام الجارى ، حين وجد كيان الاحتلال النيران والصواريخ تحاصره من الشمال والجنوب ، وعجز عن رد رادع ، لم يتجاوز وقتها شن ضربات وغارات فى مناطق خالية بالجنوب اللبنانى وقطاع “غزة” ، لم تقتل فيها نملة ، وقلنا وقتها أن ما أبداه العدو من عجز ووهن ، خشية تطور الحوادث إلى حرب شاملة ، تأتيه من الشمال والجنوب ، وأنه ربما يحاول فى “إشعار آخر” ، جاء هذه المرة باتجاه “غزة” ، وبمحاولة فصم عرى كل توحد فلسطينى ، بتحييد حركة “حماس” ، ووضعها تحت تهديد ضاغط باغتيال قادتها الميدانيين ، وبدعوى التركيز على مطاردة حركة “الجهاد” وحدها ، عبر سلسلة متصلة من الاغتيالات لقادتها ، كانت حلقتها قبل الأخيرة قبل شهور ، وتحديدا فى أغسطس 2022 ، حين جرى اغتيال “تيسير الجعبرى” القائد العسكرى لحركة “الجهاد” ، برشقات الصواريخ قصيرة المدى ، وامتد الصدام لثلاثة أيام ، لم تشارك فيه وقتها حركة “حماس” ، ولا جناحها العسكرى “كتائب عز الدين القسام” ، وبدا ذلك مغريا بتكرار لعبة التقسيم والاستفراد الإسرائيلية ، وما من رد ملائم عليها ، إلا بتأكيد وحدة الساحات ووحدة الفصائل المقاومة ، وإعادة تصدير الفشل لكيان الاحتلال ، وبإحباط خطة “فرق تسد” ، وربما يكون الرد أكثر تأثيرا ، إن امتد لخارج نطاق “غزة” ، وفى ساحات متعددة بذات الوقت ، فقد تكون حركة “الجهاد” أصغر حجما وأقل تسليحا بمراحل من حركة “حماس” ، لكنها تمتاز بجرأة عملياتها ، وربما باستقامتها الظاهرة ، فقد رفضت على الدوام كل مسيرة “أوسلو” ، ولم تشارك فى سباق على كراسى سلطة ، ولا فى انقساماتها ومساوماتها وتصادماتها ، واحتفظت بصلات ثقة مع الجميع ، ساعدتها على القيام بدور ريادى فى الضفة الغربية ، من خلال خلاياها فى “جنين” و”وطولكرم” و”نابلس” وغيرها ، وتفاعلت بصورة أوسع مع بقايا تنظيم “كتائب شهداء الأقصى” التابع نظريا لحركة “فتح” ، ومع مبادرات الشباب المقاوم خارج التنظيمات ، وقدمت مثالا عابرا للفصائل والساحات ، ونسجت بدأب شبكات للمقاومة المسلحة بالقدس والضفة والداخل المحتل منذ 1948 ، وسبقت لإنشاء ورش لتصنيع السلاح والطائرات المسيرة ذاتية المنشأ ، وربما تكون صلاتها الأوثق مع “حزب الله” ومع “إيران” ، قد لعبت دورا بدعم مبادرات حركة “الجهاد” ، التى نقلت تجربة “غزة” إلى نطاق أوسع جغرافيا بكثير ، وإلى حيث مناطق التداخل والاشتباك المباشر اليومى مع قوات الاحتلال وقطعان المستوطنين ، وبدء صيغة جديدة للمقاومة ، التحقت بها حركة “حماس” ، واجتهدت فى تنظيم إطار جامع للمقاومة فى القدس والضفة ، من “رام الله” وجوارها إلى منطقة “الأغوار” ، وتواصلت أكثر مع كتائب “نابلس” و”طولكرم” و”الخليل” ، من نوع حركة “عرين الأسود” وأخواتها ، ومع خطوط التماس الواصل إلى الداخل الفلسطينى المحتل منذ 1948 ، وهذه هى خرائط شبكات المقاومة الجديدة ، الأكثر إفزاعا لإسرائيل ، وهو ما يدفعها إلى الاستخدام المكثف لقدراتها العسكرية ، والنفاذ من ثغرات ظاهرة فى الواقع الفلسطينى المعقد ، والعودة لسياسة اغتيالات قادة المقاومة ، وعلى ظن أنهم يطفئون النار ، وفاتهم أن عمليات الاغتيال السابقة لقادة “فتح” و”حماس” و”الجبهة الشعبية” و”الجهاد” وغيرها ، لم تؤد أبدا إلى إضعاف المقاومة ، بل زادتها لهيبا وانتشارا ، ودفعت أجيال الفلسطينيين الجديدة إلى الالتحاق بقطار المقاومة والاستشهاد المقدس ، أضف ما يجرى اليوم ، فقد وصلت أوهام السلام والتطبيع والتسويات إلى الحائط المسدود ، ولم ينفع “إسرائيل” كسبها لولاء حكومات عربية ، ولا توالى اتفاقاتها “الإبراهيمية” سيئة الصيت ، ولا تحولاتها الداخلية إلى اليمين الدينى الأكثر شراسة ، بل بدا ذلك كله مفيدا لقضية فلسطين من زوايا أخرى ، فقد زالت كل المناطق الرمادية ، وتحددت الفنادق ، ويدور الصراع سجالا ، على نحو ما يتجدد عفيا فى السنوات الأخيرة بالذات ، بعد فترات تراجع وموات ، عاد بعدها الربيع الفلسطينى على ايقاع “الدم الذى يهزم السيف” ، وحروب المقاومة الطويلة ، التى يخشاها كيان الاحتلال ، الذى يفضل شن حروب خاطفة ، لم تعد تجدى مع الميادين الجديدة واتساعها ، ومع حروب الاستنزاف التى تخوضها فصائل المقاومة الجديدة ، حروب استنزاف الخوف من العدو ، والاستعداد اللانهائى لبذل التضحيات ، والثقة بعون الله ونصره العزيز لعباده المخلصين ، وحرق مراكب التعويل على نجدة للفلسطينيين تأتى من خارجهم ، فقد استعاد الشعب الفلسطينى قضيته إلى يديه ، وأثبت مقدرته على إنهاك العدو المحتل ، وكما فى كل تجارب التحرير ، لا يلزم للمقاومة أن تملك مثل ما يحوزه العدو من سلاح ، بل تقترب ساعة التحرير ، ويضعف الاحتلال بالإنهاك المتدرج المتصاعد ، ويرحل الاحتلال ، حين تصبح تكلفة بقائه فوق عوائده ومزاياه ، وهو ما عاينه الشعب الفلسطينى بنفسه فى تجارب الجوار المقاوم ، كما جرى فى الجنوب اللبنانى ، وكما جرى بإجبار “إسرائيل” على الجلاء من جانب واحد عن “غزة” ، وتحويلها برغم الحصار إلى قاعدة مقاومة متطورة ، واليوم ، تتحول فلسطين المحتلة كلها إلى “غزة” كبرى ، وتتنوع الوسائل والأساليب ، وتتعزز قدرات المقاومة بحضور فلسطينى كثيف فى الوطن المحتل ، يزيد فى موارده البشرية على موارد اليهود المحتلين المجلوبين ، وتميل الموازين السكانية فى إطراد إلى الكفة الفلسطينية ، وإلى وحدة ميدانية جامعة للشعب الفلسطينى ، برغم انقسامات السطح بين الفصائل والسلطات الوهمية المعيقة ، فلم يعد الهدف إقامة دويلة فلسطينية على الورق ، ولا تحرير الضفة وغزة وحدهما ، بل العودة إلى المدار الأصلى للصراع ، وتحرير فلسطين كلها من النهر إلى البحر ، وإقامة دولة ديمقراطية شاملة لكل السكان باختلاف مشاربهم ، تقوم على أنقاض المشروع الصهيونى العنصرى الاستيطانى الإحلالى ، وقد يبدو ذلك حلما محلقا ، أو استغراقا ممعنا فى الخيال ، وإن كنا نراه ممكنا وقريبا ، وقد يصبح حلا واقعيا بلا بديل ، فبعد عشرين سنة من اليوم ، يصير الفلسطينيون غالبية سكانية فوق الثلثين على أراضى فلسطين بكاملها ، فوق الحيوية المضافة للشعب الفلسطينى ، الذى يخلق خلقا جديدا ، وتنقشع عنه سحابات الأوهام ، ولا يعود ينتظر منقذا من خارج الحدود ، بل يوسع من دوائر التعاطف والإعجاب بصموده ومقاومته لدى الرأى العام ، فى عالم يتغير بسرعة ، وتفقد فيه واشنطن مكانتها المتحكمة ، ويتراجع تأثير الغرب عالميا ، وما كيان الاحتلال إلا بضعة من إرث الغرب ، تضعف بضعفه ، وتذوى بتداعى أثره ، وتنتظر نكبتها الأخيرة ، ربما قبل أو مع حلول الذكرى المئة للنكبة الفلسطينية الأولى .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى