مقالات

د. عبد الحليم قنديل يكتب: فرصة أوكرانيا الأخيرة

بقلم الكاتب الصحفي الدكتور عبد الحليم قنديل

بعد هدوء نسبى استطال شهورا على جبهات حرب أوكرانيا ، اللهم إلا من القتال المستعرحول وفى مدينة “باخموت” ، التى شهدت أطول المعارك وأكثرها دموية فى الحرب كلها ، وبدت كأنها الحرب التى طوت وأنست الناس وقائع الحرب الأصلية ، وفيما الكل مستغرق فى قصة “باخموت” ، وفى انتظار الهجوم الأوكرانى المضاد الموعود ، الذى تدحرجت مواعيده وألقابه من “الربيع” إلى الصيف ، وجرى إغراق أوكرانيا بطوفان السلاح الغربى المتدفق من أجله ، فيما جاءت المبادرة من مكان آخر ، وشهدت مدينة فى غرب أوكرانيا أعظم انفجار فى الحرب كلها حتى تاريخه .
بدا الانفجار كأنه من النوع النووى ، واندلعت النيران متسعة مقتحمة لطبقات السماء العلا ، وفيما صمتت أوكرانيا صمت القبور عن ماجرى فى مدينة “خميليتنسكى” بالقرب من الحدود مع بولندا ، تحدثت المصادر الروسية ووزارة الدفاع عن ضربة دمرت مخزنا هائلا للاسلحة الغربية ، جرت غالبا بطائرات مسيرة انتحارية من طراز “لانسيت” ، تقدمت على موجتين إلى الموقع المستهدف ، ودمرت أسلحة متنوعة تبلغ قيمتها 500 مليون دولار ، قيل أن من بينها قذائف يورانيوم منضب ، قدمتها بريطانيا علنا إلى أوكرانيا ، وربما تفسر قذائف اليورانيوم المتفجرة شدة واتساع الانفجار ، وبعد الانفجار المرعب ، الذى بدأ به أسبوع الحرب الأخير ، جاءت الضربة الثانية فى قلب “كييف” عاصمة أوكرانيا ، وبهجوم منسق أتى من جهات متعددة بعيدة ، وعلى نحو سريع متتابع ، شاركت به صواريخ “كينجال” الروسية الأسرع من الصوت بخمس مرات على الأقل ، وقالت روسيا أنها دمرت منظومة “الباتريوت” الأمريكية الوحيدة ، التى زودت بها أوكرانيا حتى الآن ، وفيما بدا النفى الأوكرانى متلعثما ، وعقبت المصادر الأمريكية الرسمية بأنها لا تستطيع التأكيد ، ونقلت الميديا الأمريكية عن مصادرها الموثوقة ، أن ما جرى كان إتلافا لمنظومة “الباتريوت” ، وليس تدميرا شاملا ، وبدا اللجاج الأمريكى الأوكرانى معبرا عن ارتباك ذاهل ، ويدحض إدعاء سابقا نفته روسيا عن معركة “كينجال” و”باتريوت” ، فقد إدعت أوكرانيا وسايرتها واشنطن ، أن منظومة “الباتريوت” أسقطت صاروخ “كينجال” ، وهو ما بدا موضع جدال لم ينته بعد فى الدوائر العسكرية المتخصصة ، التى يقطع أغلبها باستحالة تصدى أى نظام دفاع جوى للصواريخ فرط الصوتية ، و”كينجال” ـ أى الخنجر بالروسية ـ واحد من أشهرها وأكثرها تطورا .
وبدا فى القصة كلها صدام دعائى زاعق بين التكنولوجيا الروسية ونظيرتها الأمريكية ، فأمريكا تقدم نظام دفاعها الجوى “باتريوت” على أنه الأفضل عالميا ، برغم سوابق إخفاقه بالدفاع عن بلدان خليجية ، وتقدم طائرتها المسيرة الانتحارية “سويتش بليد” على أنها الأخطر ، فيما تفاخرروسيا بطائرتها المناظرة “لانسيت” ، وبنظم دفاعها الجوى الشهيرة “إس ـ 300″ و”إس ـ 400″ و”إس ـ 500” ، وتنفرد روسيا بتقدم ظاهر فى الصواريخ النووية وغيرها ، من “اسكندر” و”كينجال” إلى “بوسيدون” و”سارمات” الأسرع من الصوت بعشرات المرات ، وقد بدت أوكرانيا وحربها الجارية كحقل تجارب مثير للانتباه ، بسبب الطابع العالمى ، الذى كانت عليه الحرب منذ بدأت قبل 15 شهرا ، وتطورت مع امتداد زمنها إلى حرب عالمية “مسقوفة” إن جاز التعبير ، ومقيدة حتى اليوم بحدين ظاهرين ، مقيدة جغرافيا بالحدود الأوكرانية ، ومقيدة باستخدام الأسلحة تحت النووية ، فلا أحد يريد الدخول فى صدام نووى شامل يفنى معه الجميع ، وفيما عدا حظر التورط النووى ، فلا توجد خطوط حمراء من أى نوع ، والأهداف معلنة جهيرة ، والغرب يريد بلا تردد هزيمة روسيا فى أوكرانيا ، وتفكيك روسيا نفسها إن أمكن، وجمع إمكانات خمسين دولة للحرب على روسيا ، فيما عرف ويعرف باسم صيغة “رامشتاين” ، والأخيرة أكبر قواعد أمريكا العسكرية فى ألمانيا ، وهى المقر المفضل لاجتماعات القادة العسكريين من الخمسين دولة ، التى تشمل بالطبع كل أعضاء حلف شمال الأطلنطى “الناتو” ، وإلى جوارهم دول الهوى الغربى فى شرق آسيا ، من استراليا ونيوزيلندا إلى كوريا الجنوبية واليابان ، ومعهم طرف عربى للأسف ، وكل هؤلاء قدموا ويقدمون مئات مليارات الدولارات إلى سلطة “كييف” ، فقد أصبحت أوكرانيا عسكريا واقتصاديا ومعيشيا فى كفالة الغرب الأمريكى والأوروبى بالكامل ، من الغذاء والدواء والرواتب والمعاشات إلى كافة أنواع السلاح الأكثر تطورا ، والرئيس الأوكرانى الصهيونى “فلوديمير زيلينسكى” يفهم ذلك جيدا ، ولا يبالى بما يحدث أحيانا من امتناع تبديه دولة من حلف الخمسين ، وكلنا يذكر ما أبدته واشنطن من تمنع فى تزويد الجيش الأوكرانى بدبابات “إبرامز” ، وما أبدته دول أوروبية كألمانيا من تمنع عن إرسال دبابات “ليوبارد” ، ثم تبدد التمنع تباعا ، وجرى إرسال مئات الدبابات ، قبلها جرى جدال علنى حول إرسال نظم دفاع جوى متطورة ، وإلى أن أرسلت كل النظم من “أيريس تى” الألمانى و”ناسامز” إلى “باتريوت” الأمريكية ، وبعدها طلب “زيلينسكى” تزويده بصواريخ هجومية بعيدة المدى ، وبدا أن واشنطن تتحفظ فى العلن ، لكنها سمحت لبريطانيا بإرسال صواريخ “ستورم شادو” ، وبمدياتها المتراوحة من 300 كيلومتر إلى 700 كيلومتر ، وتعهدت فرنسا بتقديم صواريخها المماثلة فى جولة “زيلينسكى” الأوروبية الأخيرة ، إضافة لاختراق الخط الأحمر الأخير ، مع تعهدات بريطانيا الأخيرة بإرسال الطائرات المقاتلة من طراز “تايفون” ، ولن يعجب أحد لو وافقت أمريكا على إرسال طائرات “إف ـ 16” ، التى يلح عليها “زيلينسكى” ، ويعتبرها ضرورية لشن ما يعرف باسم الهجوم الأوكرانى المضاد ، ففى أوكرانيا اليوم 600 نوع من الأسلحة الغربية المتطورة ، والحملة جارية لتزويد الجيش الأوكرانى بمليون قذيفة فى الشهور المقبلة ، وواشنطن تخوض حرب ابتزاز لدول كثيرة من خارج تحالف الخمسين ، وتريدها أن ترسل دباباتها وطائراتها ومخزونات قذائفها إلى ميدان الحرب ، ولم يعد أحد يخفى حقائق المشاركة الفعلية بالحرب الجارية من وراء القناع الأوكرانى ، بالخدمات اللحظية المباشرة لمئات من الأقمار الصناعية المدنية والعسكرية الغربية ، وبتجنيد كل أجهزة المخابرات لخدمة عمليات الميدان حتى فى قلب العمق الروسى ، وبمئات الخبراء والمستشارين والمخططين الأمريكيين والبريطانيين والفرنسيين والبولنديين وغيرهم العاملين من “كييف” نفسها ، وبآلاف مؤلفة من المحاربين والجنود السابقين فى الفيالق الأجنبية ، وكل ذلك تواجهه روسيا وحدها تقريبا ، ومن دون أن تتراجع موسكوعن شئ حققته عمليتها العسكرية بشرق وجنوب أوكرانيا ، ولا عن قرارها باستكمال الضم الفعلى للمقاطعات الأربع (دونيتسك ولوجانسك وخيرسون وزاباروجيا) ، وجعل خط الحدود الجديد عند المانع المائى الطبيعى “نهر دنيبرو” ، الذى يقسم أوكرانيا طوليا ، والاستمرار فى تحطيم ونزع كل السلاح فى أوكرانيا ، برغم 10 ألف عقوبة جرى فرضها على الاقتصاد الروسى ، ومن دون أن تنجح فى تحطيمه كما أملت واشنطن ، ولا فى عزل روسيا ، التى صنعت عالما جديدا تتحرك فيه بأريحية بعيدا عن الغرب ، وتواصل حملتها العسكرية بصبر وتمهل ، وأعدت نفسها لنزيف قد يمتد لسنوات ، وتستبق “الهجوم الأوكرانى المضاد” بحملة جوية وصاروخية مدروسة ، فى عملية أقرب إلى نزع الأنياب ، وجعل مهمة استيعاب الهجوم المنتظر أسهل ، وتفريغ قوة اندفاعه ، إضافة لتحصينات وخنادق وخطوط دفاع ، بناها الروس وطوروها عبر شهور هدوء مضت ، قد تمكنهم من صد الهجوم بأقل خسائر ممكنة ، والرد بهجوم معاكس ، قد يهدف أولا للتقدم من “باخموت” إلى “كراماتورسك” و”سلافيانسك” ، أهم مدينتين ظلتا بيد أوكرانيا فى إقليم “الدونباس” ، وربما التفكير فى الانتقال الحربى لدوائر أوسع ، قد يكون بينها التقدم عبر مقاطعة “ميكولاييف” إلى ميناء “أوديسا” على البحر الأسود ، وهو ما قد يوحى به تخفيض روسيا لمدى اتفاق الحبوب إلى شهرين فقط ، وفى حسابات روسيا على ما يبدو ، أن الهجوم الأوكرانى الذى تتلكأ مواعيده ، قد يكون فرصة أوكرانيا والغرب الأخيرة ، فلم يتبق فى رصيد دعم واشنطن المالى لحرب أوكرانيا ، سوى نحو ستة مليارات دولار ، ولا ينوى الرئيس الأمريكى “جوبايدن” كما أعلن أخيرا ، أن يطلب اعتمادات إضافية بالخصوص حتى سبتمبر المقبل ، والمعروف أن منظومة “باتريوت” الواحدة تكلف نحو مليار دولار ، وواشنطن مع حلفائها عبر المحيطين الأطلنطى والهادى ، يريدون من “كييف” أن تظهر لهم كرامة ، والتعجيل بشن هجوم الفرصة الأخيرة ، وقد استنزفوا كل ما يملكون من أجله ، ومن دون أمل كبير فى تحقيق أهدافه المعلنة رسميا ، أى إجبار روسيا على الانسحاب ، وترك نحو 120 ألف كيلومتر مربع آلت إليها من أراضى أوكرانيا ، بما فيها “شبه جزيرة القرم” ذات القداسة الاستراتيجية عند الروس ، وقد سبق للجنرال “مارك ميلى” قائد أركان الجيوش الأمريكية ، أن وصف علنا هدف الهجوم الموعود بأنه مستحيل التحقق عمليا ، وهو ما قد يعنى بوضوح ، أن هزيمة الغرب فى حرب أوكرانيا باتت أقرب .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى